(5) القرآن الكريم.. وفقه بناء الإنسان بقلم الدكتور/ أحمد علي سليمان عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية

(5) القرآن الكريم.. وفقه بناء الإنسان بقلم الدكتور/ أحمد علي سليمان عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
(5) القرآن الكريم.. وفقه بناء الإنسان بقلم الدكتور/ أحمد علي سليمان عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
وللقراءة كما يلي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
(5) القرآن الكريم.. وفقه بناء الإنسان
بقلم الدكتور/ أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
الحمدُ لله الذي نزَّل الفرقانَ على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، والصلاةُ والسلامُ على المبعوث رحمةً للعالمين، وقدوةً للعابدين، سيدنا محمد الذي أرسله ربُّه بالبينات والذكر الحكيم، وعلى آله وصحبه، ومَن سار على دربه إلى يوم الدين… وبعد.
في البداية لابد أن تتوضأ الحروف، وتغتسل الكلمات، وتتطهر الأبدان؛ وتتعطر النفوس والقلوب؛ قبيل الحديث عن كلام الله الخالد؛ بل إنني أستأذن الجناب الأعلى لنعيش في كنف بعض تجليات كتابه الحكيم، وقرآنه الكريم، ودستوره العظيم.
إذا أردنا أن نتناول موضوع (منهج القرآن الكريم في بناء الإنسان)، فإنه لا يسعنا الزمان ولا المكان لكي نوفي هذا الموضوع حقه، فهو يحتاج إلى عشرات الدراسات والرسائل العلمية، بيد أننا سنحاول أن نطرق هذا الموضوع بصورة موجزة والله، المستعان وعليه التكلان.
وهذا يستدعي أن نسبحَ في بحار القرآن الكريم، ونحلِّق في آفاقه، ونسير في دروبه، ونغوص في كنوزه؛ في المقالات التالية؛ لنستبين معالم البناء التي أرادها الله العظيم.. ويا لها مِن سباحةٍ رابحة!
خصوصا وأن القرآن الكريم سيظلُّ هو مصدر النور الذي ينير العقول والقلوب والنفوس والدروب، ويرسم معالم البناء النفسي والروحي والعقلي والفكري والأخلاقي والاجتماعي والسلوكي… إلخ؛ ليعيش المسلم موقنا أنه صاحب أخلاق قرآنية، وصاحب رسالة ومسئولية في هذه الحياة، تدفعه إلى الأداء الحضاري المتميز بالعلم النافع والعمل المتقن المبدع لخدمة الإنسانية وترقية الحياة، وهو مَن يقود الحياة بعقل ناضج، وبقلب كبير يعلو على الأهواء، وبضمير حي شريف، وبخلق زكي متسامح، وبهمة تسمو فوق المحن.. ويكون مصدرا للسعادة والإسعاد بمعية كلام الله، ويتحقق فيه الخير والخيرية ببركة هذا القرآن العظيم، وتتمركز الوسطية والسماحة في نفسه، وتقوى مناعتُه الفكرية والسلوكية، ويعيش جادةَ الصواب، وبه ومع أمثاله يتحقق فينا قول ربنا الكريم: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ…) (آل عمران: 110)
معالم البناء النفسي للإنسان القرآن الكريم:
يؤثر القرآن الكريم في نفس حامله وقارئه وكاتبه وسامعه ومتدبره تأثيرًا جليلا.. ينقله نقلة نوعية وروحية من عالم المادة وعالم المصالح والأنانية وعالم الصراع إلى عوالم أخرى.. فيبني في العبد معالم الأمن والأمان والطمأنينة والسكينة والاستقرار الروحي والنفسي، يقول تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28).
ولقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الهدوء النفسي والسكينة التي ينعم بها المجاورون لله التالون لكتابه، تجعلهم أهدأ نفسًا، وأزكى روحًا، وأقل مرضًا؛ ذلك لأن القرآن الكريم ينير القلب، وينير العقل، وينير النفس، وينير البصر والبصيرة والضمير، ويجعل صاحبه في معية الجناب الأعلى جل وعلا، يرضى بقضائه، ويصبر على بلائه، ويشكره على نعمائه، ويقنع بعطائه… يؤمن بالغيب كما يؤمن بالشهادة… فيعيش هادئ النَّفس، مستريح البال.. بعيدًا عن الاضطرابات “الفسيولوجية” الداخلية، والصراعات النفسية، والفراغات الروحية.
إن َّالقرآن شفاء للنفوس من الأسقام، ودواء للقلوب من الوهن، والعقول من الأوهام، يبني في الإنسان الأمل والتفاؤل في هذه الحياة. ولقد أثبت الدراسات النفسية الحديثة أن المتفائلين هم: أكثر الناس نجاحًا، وأكثرهم إيجابيةً، وأكثرهم تعاونًا وتسامحًا، وأكثرهم إنجازًا، وأطولهم أعمارًا (بذكرهم أحياء وأمواتا).
ويستطيع الإنسان بحصافة عقله ونور قلبه وبصيرته أن يميّز أهل القرآن الذين أثر فيهم كلام الله وبناهم روحيًّا ونفسيًّا، من بين آلاف البشر، بهدوء أنفسهم ووجوههم النيرة.. ونرى دومًا أوائل الثانوية الأزهرية وطلاب كليات القمة هم حملة كتاب الله وحفظته عن ظهر قلب.
فالمؤمن الذي أثَّر القرآنُ في نفسه هو الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدّق بها، وأيقن أنها من عند الله، ويؤمن بأن قضاء الله فيهم ماضٍ، فلا يرجون غيره، ولا يرهبون سواه.
يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 2-4)، وهكذا فإن القلق النفسي، والاضطراب الروحي، والتوتر العصبي، لا يعرف للمؤمن الذي عاش بالقرآن، سبيلًا.
معالم البناء العقلي والفكري للإنسان القرآن الكريم:
وفيما يتعلق بدور القرآن الكريم في بناء الشخصية فكريا وعلميا، فقد كانت نظرته لهذه القضية تتسم بالتكامل والتنوع والشمول، لتدريب العقول على استقراء واستلهام آيات الله وآلائه في كتابيه: المسطور والمنظور، والسباحة الفكرية في ملكوته طولا وعرضًا وعمقًا وبشكل دائب لا ينقطع.. بل إنه تعالى رفع مقام التأمل والتذكر والتفكر، بأن جعل التفكر فريضة إسلامية، كفرائض العبادات وشعائرها..
لقد بدأ الأمر الإلهي الكريم في القرآن العظيم بقوله: “اقرأ”، ثم أمر الإنسان أن يتدبر في نفسه وفي خلقه (وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)، وأمره أن يتدبر ويتفكر ويتذكر ويتأمل وينظر ويعمق النظر ويقلبه في كل آلائه ومخلوقاته.. في كل زمان وفي كل مكان.. ليظل عقل المسلم وفكره في عمل دائب؛ لإفادة النفس والكون والحياة.. قال تعالى: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية: 17-20)، (..وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) (آل عمران: 7)، وقوله جل وعلا: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 190-191)، وقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164) إن هذه الآيات -وغيرها كثير- لتؤكد مكانة هذا البناء الفكري والعقلي والعلمي.
لقد سبق القرآن العظيم وهو يبني شخصية المسلم فكريًّا وعقليًّا إلى الارتقاء في مراتب التفكير العليا من ناحية، وإلى احترام قيم العلم (البحث، والتأمل، والتوثيق، والكتابة، والموضوعية، والنزاهة، والحيادية، والتفكير المعمق، والعمل الجماعي، والشورى، والتعددية وقبول الآخر، واحترام المخالف، والابتعاد عن الانفعالات الفكرية، والرجوع لأهل الذكر في كل مجال والرضوخ لأقوالهم، ومجاهدة العقل والفكر لكي يكون متوازنًا، والإيمان بالفروق الفردية، والتسامح، والتركيز على غرس القيم الدافعة للتقدم، وعلى رأسها قيم الإحسان والإتقان والبراعة في التفكير والتعبير) من ناحية أخرى..
كما دعا القرآن إلى البناء العقلي والفكري من خلال التربية البصرية وتعميق النظر في بديع صنع الله في الكون، فالناظر المدقق في ذلك يلحظ أن الإنسان تعلم الفن والذوق الرفيع من الطبيعة والكون.. من الزروع والورود والزهور والنباتات.. ومن الرخام، والطاووس، والطيور، والأسماك، وقوس قُزح وتداخل الألوان في السماء وغيرها من مخلوقات الله.. كما دعا أيضا إلى البناء العقلي والفكري من خلال التربية السمعية بتدريب الأذن على السباحة والسياحة في ملكوت الله، وسماع النغم الطاهر الذي خلقه الله في هذا الكون، فمن أنغام الكون (أصوات الرياح، وأصوات البحار، وأصوات الطيور والمخلوقات.. أصوات مرور الهواء بين الزروع والأشجار… وغيرها)، كل ذلك من أجل أن تتأدب النفوس وتتهذب وترقى في هذا الحياة..
لذلك عاتب الله تعالى أولئك الذين لا يُعملون عقولهم، ويعطلونها، وشبههم بالأنعام، بل هم أضل قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179).
معالم البناء الأخلاقي والقيمي للإنسان القرآن الكريم:
إن البناء الأخلاقي المنبثق من القرآن الكريم، بلغ شأوته علوا وسموقًا، لأنه يزرع في الشخصية المؤمنة أرقى أنواع القيم وأرفع الأخلاق، ومن بينها قيم الاتقان والإحسان، في كل شيء، ومع كل الناس والمخلوقات، وفي كل حال.. قيل لسيدنا يوسف وهو في السجن..!!، (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، وقيل له وهو على خزائن مصر (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). ومن ثم تُعلِّم المسلم أن يكون محسنًا في الشدة والرخاء في السراء والضراء.. حتى وإن لم يلق إحساناً من الناس؛ بل لأن الله يحب المحسنين.
إن البناء الأخلاقي النابع من مشكاة القرآن الكريم هو الذي أثَّر في القلوب المؤمنة فحركها وجعلها تنحو نحو الرحمة بشتى مفردات الطبيعة والكون، ونحو السماحة والرفق واللين والصدق والأمانة والعفة والشجاعة والكرم والتعاون وحب الخير للآخرين والسخاء والعطاء والاعتدال في كل شيء..
ويؤثر القرآن الكريم في نفوس أتباعه أخلاقيًّا، في تأسيهم برسول الله (ﷺ) الذي كان خلقه القرآن؛ بل كان قرآنًا يمشي على الأرض. ويحدد ربنا جل وعلا للمؤمنين أسباب السعادة والفلاح بالالتزام بالأخلاق والمثل العليا التي لا يتحقق المجتمع الفاضل إلا بها.. قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ .وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون: 1-11).
وتظلُّ الوصايا القرآنية التي ذكرها ربنا جلَّ وعلا على لسان سيدنا لقمان عليه السلام، هي المحركات الأساسية في البناء الأخلاقي للمسلمين؛ لينعموا بسعادة الحياة، التي تسودها الأخلاق السامية بداية من الإيمان بالله تعالى، والوصية الجليلة بالوالدين، وشكر الخالق، وكذا الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف، وسلوك سبيل المؤمنين المتقين، واليقين الكامل في قدرة الله وفي لطفه وعلمه المطلق، وإقامة الصلاة التي تربط المسلم بربه برباط قوي ودوري لا تنفصم عُراه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على المكاره، والتواضع مع الله، ومع رسوله، ومع كل الناس وكل المخلوقات، والتأني والروية والاعتدال وخفض الصوت والتواضع…
يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ . يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ( (لقمان: 13-19). ولا ريب في أنَّ تمثل هذه الأخلاقيات كفيل بإيجاد مجتمع فريد، ومنضبط، يرتكز على بنية أخلاقية وقيمية وسلوكية مستمدة من ينابيع نور القرآن العظيم.
معالم البناء الاجتماعي للإنسان القرآن الكريم:
لقد أبدع القرآن الكريم في البناء الاجتماعي للإنسان، حيث أرسى القواعد الكثيرة والشاملة التي من شأنها إحداث التصالح والسعادة بين الناس، فعلى سبيل المثال: نجد أن العبادات في الإسلام شرعت من أجل إصلاح المجتمع، ففي الصلاة قال الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ…) (العنكبوت: 45)، وفي الزكاة قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا…) (التوبة: 103)، وفي الصيام قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وفي الحج قال عز وجل: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ…) (البقرة: 197)، وهكذا دوليك..
ملمح مهم في البناء الاجتماعي من المنظور القرآني، وهو التحذير من نشر الشائعات ومن خطورتها على الفرد والأسرة والمجتمع بل وعلى الإنسانية. ولخطورتها البالغة وصف الله مروجها بالفسق، ودعانا إلى التبين والتثبت، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
وأكد على الأخوة الإنسانية، وحفظ الأعراض، وعدم سخرية الإنسان من أخيه، وعدم التنابز بالألقاب، واجتناب الظن السيئ، والابتعاد عن التجسس والتلصص والغيبة والنميمة وغيرها من الآفات الهدامة للبناء الاجتماعي والمؤججة للصراع في جنبات المجتمع، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ . يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( (الحجرات: 10-13).
كما دعا إلى الزواج وتكوين مؤسسة الأسرة على أسس سليمة، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)، وأمعن في الوصية بالنساء والأطفال والشباب وكبار السن والضعفاء، وأيضا الحيوان والنبات وحتى الجماد، وكذلك الميراث باعتبار أنه القسمة التي قسمها الله وارتضاها للمسلمين، ففيها صلاح البناء الاجتماعي، وحذر تحذيرًا صريحًا من مخالفة ما حدده الله، ودعا إلى العمل بما أمر به الله ففيه الفلاح العظيم، قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (النساء: 13).
ولقد حدد الله تعالى صفات عباد الرحمن، الذين يُرَّقُون الحياة ويرتقون بها؛ بالحلم، والسكينة، والوقار، والتواضع، والخشوع والخضوع لله لا يعبدون إلا هو، والاعتدال في الإنفاق، فلا هُم مبذرين مسرفين ولا هُم بخلاء مقترين، ويعظِّمون حرمات الله، وحرمة النفس الإنسانية، وحرمة الأحياء، فلا يقتلون نفسًا حرًّم الله قتلها، ولا يزنون، ويستغفرون ربهم دوما طالبين العفو منه والغفران.. لا يشهدون زورًا أبدًا، ولا يعرف الكذب سبيلا إلى ألسنتهم، وإذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل والرجس مرّوا منكرين له، إذا ذكَّرهم مذكِّر بحجج الله لم يكونوا صمًّا لا يسمعون، ولم يكونوا عميًّا لا يبصرونها، ولكنهم يِقَاظُ القلوب، فهماء العقول، يفهمون عن الله ما يذِّكرهم به، ويفهمون عنه ما ينبههم عليه، يرغبون إلى الله في دعائهم، بأن يقولوا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ما تقرّ به أعيننا بطاعتك، واجعلنا أئمة نقتدي بمن قبلنا، وأئمة يَقْتَدِي بنا مَن بعدنا.. قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا . وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا . وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا . إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا . وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا . وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا . وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا . وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا . وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا . وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا . أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا . خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ((الفرقان: 63-76)
اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا الصِّيَامَ وَالقِيَامَ وَصَالِحَ الأَعْمَالِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ… اللَّهُمَّ أَدْخِلْ عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَهْلِيكُمْ وَأَنْجَالِكُمْ وَأَحْفَادِكُمْ وَذَرَارِيكُمْ أَجْمَعِينَ الفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَالحُبُورَ، وَالسَّعَادَةَ العَامَّةَ التَّامَّةَ الكَامِلَةَ الشَّامِلَةَ الدَّائِمَةَ المُسْتَقِرَّةَ المُسْتَمِرَّةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ… نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ لَنَا وَلِأَوْلَادِنَا، وَلِمُجْتَمَعِنَا وَلِشَعْبِنَا.
اللَّهُمَّ احْفَظْ مِصْرَ شَرْقَها وَغَرْبَها، شِمالَها وَجَنوبَها، طُولَها وَعَرْضَها وَعُمْقَها، بِحارَها وَسَماءَها وَنِيلَها، وَوَفِّقْ يا رَبَّنا قِيادَتَها وَجَيْشَها وَأَمْنَها وَأَزْهَرَها الشَّرِيفَ، وَعُلَماءَها، وَاحْفَظْ شَعْبَها، وَبِلادَ المُحِبِّينَ يا رَبَّ العالَمِينَ.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ وَبارِكْ على سَيِّدِنا وَمَوْلانا مُحَمَّدٍ، وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
خادم الجناب النبويخادم الدعوة والدعاة د/ أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
واتس آب: 01122225115 بريد إلكتروني: [email protected]
متابعة الصفحة الرسمية، وعنوانها: (الدكتور أحمد علي سليمان)؛ يضمن لك كل جديد https: //www.facebook.com/drahmedalisoliman/
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف